حجز “يوم العرق” موعدا له في زحلة هذه السنة أيضا، حيث سينظم في 26 تموز المقبل برعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ليكون محطة سنوية، تسعى المدينة لتصبح تقليدا يجمع بين لقبها ك “مدينة للتذوق المستدام في شبكة المدن المتميزة للاونيسكو” وخبرتها في صناعة العرق واستضافته.

تلقف زحلة لفعالية  هذا “اليوم” الذي إنطلق في العام الماضي بالتعاون بين  وزارة الزراعة ووزارة الخارجية والمغتربين،  بلدية زحلة – معلقة وتعنايل  وجمعية الطاقة الوطنية،  يؤكد التمسك بقطاع إنتاجي شكل دعامة اساسية لقاعدة اقتصاد المدينة،  ولعب أحد الادوار التي ساهمت بنقل شهرة زحلة  وكرومها الى الخارج. وقد افتخر الزحليون بهذه الخصوصية، وثبتوها هوية دائمة لهم، تجسدت في تمثال لآلهة الشعر والخمر، رفع على مدخل زحلة منذ ستينيات القرن الماضي، وفي كلمات نشيد زحلة التي “فطم” عليها الزحليون وفيها ما يقول “زحلة زحلة زحلتنا، وشرب العرق عادتنا”.

منذ اوائل القرن العشرين، إزدهرت صناعة العرق في زحلة. فإنتشرت في مختلف الأحياء حتى منتصف القرن العشرين، 50 خمارة، كان من بينها  في حارة الراسية وحدها، 25 خمارة، تخطت شهرة بعضها حدود المدينة في تقديم اجود انواع العرق، وبيعت في مختلف الولايات العثمانية قبل الحرب العالمية الاولى، وجال بعضها في ارجاء العالم مع ازدهار الهجرة الزحلية الى الخارج بعد ذلك.

إختفت معظم هذه الخمارات “البيتية” من أرجاء المدينة منذ  سنة 1975، إلا أن بعض شواهدها بقيت موجودة.

ما يختزنه بيت يوسف شاهين حنكش في حي مار الياس المخلصية يشكل أحد تلك الشواهد.

شواهد في منزل يوسف شاهين

في هذا البيت تجد “البيارة” التي كان يخزن فيها العنب بمرحتله الاولى، الخوابي القديمة، الكركة التقليدية التي تعمل على الحطب وهي من صناعة عيد الشويري الذي كان يشتهر بتصنيع النحاس الاحمر، وعروسها التي تخفيها العائلة خوفا عليها من سارقي النحاس الاحمر، “القشاشية”، وهي التي يعرض فيها العرق المنتج كفخر لصناعة عائلية، “الدويك” الذي كان يستخدم لقياس العيارات، وتنكة العرق القديمة، كما تجد بئر مخفي كان يستخدم لتهريب كمياته من الدولة. وآلة الطحن التي إستبدلت بها عملية “معس” العنب بدوس الأرجل، وقد أشترتها العائلة مستخدمة من كساره عندما قامت خمارتها بتطوير معداتها.

ورث يوسف شاهين حنكش ال”مكارية” من عائلته، حيث كان في أحداث الحرب العالمية الأولى وقبلها،  يهرب القمح على ظهر دوابه الى بيروت. مع مرور الزمن أخذ حنكش “ينوع” في تجارته لتشمل بيع العرق، ثم تعلم “شيله” بالاجرة في خمارة  لآل النحاس، الى أن إقترح عليه مرة شاب من زحلة يدعى أنطوان خوري (جد العميد طوني الخوري)، إنشاء خمارته، مقدما له من خبرته. فبدأ بصناعة العرق في منزله منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وكان ينقل الى أسواق بيروت بداية على “أسطوله” من الدواب،  قبل أن يبدأ إستخدام سيارات الاجرة مع أولاده.

 أورث يوسف المهنة الى أولاده، واحدهم جورج حنكش الموجود كشاهد عن تلك المرحلة بعمره الذي تخطى المئة. كان جورج بعمر ال 26 سنة  عندما حصل والده يوسف على رخصة إنشاء الخمارة، التي فرضتها قوانين الدولة وأنظمتها مع إستقلال لبنان في سنة 1943. تحتفظ عائلة يوسف شاهين بهذه الرخصة داخل إطار، موقعة من الأمير مجيد أرسلان وزير الصحة والإسعاف حينها.وتحفظها الى جانب ما يختزنه منزلها القديم من ذاكرة وذكريات مع خمارات، بقيت شغالة في زحلة حتى سنة  1975 عندما إنقطع تموينها بعنب العبيدي، فتوقف الإنتاج العائلي نهائيا، بإستثناء “النزل” االذي ينتج للإستهلاك المنزلي.

راحت السكرة واجت الفكرة

عن تلك الذكريات المتداولة، وتمحور حياة الزحليين حول الخمارات، التي كانت تتحول ليلا على ما يبدو الى ملتقى لشباب الحي يتحدث الشاعر رياض المعلوف، في مقالة طريفة منشورة  بجريدة الوادي سنة 1990، حيث يقول:  ” كانت الخمارة كملاهينا اليوم، مثيل البارات، وطبعا لم تكن مزخرفة كأيامنا، لكنما كانت زخرفتها يتكفل بها العنكبوت، الذي ينسج حباله في سقفها وزواياها. فجيرة الحي كانت تعني السهرة في الخمارة، حيث تطيب دمعة، حليب السباع، وحيث كان يشوى البلوط ( كستناء تلك الايام) والبطاطا والثوم والبصل واللحوم ويطيب حديث الليل الذي لا ينتهي الا بإنتهائه وطلوع الفجر…  وصياح الديك، الخافت الصوت عند صياحه، خيفة ان يتنبه له السكارى، فيذبحونه ويشوونه، ويصبح على مائدة هؤلاء، غنيمة باردة، حارة… ولا تسل عن الزيتون، سلطان المائدة، ومنه الاخضر العيون، واسودها، فينزعون قشرته عن قلبه، ويلتهمون لحمه، ويلفظون نواته، التي هي قلبه، واحسرتاه، مع ان قلبه عليهم.

وماذا اخبرك عن مناعم موائد الخمارات بعد. المليئة كانت بالخضار، مثيل حزم السعتر والنعنع والبقلاء. فما يثير الشهية حول تلك الكؤوس البيضاء اللذيذة. وكم من مهاترات ومشاحنات، وحكايات ومواويل، كانت تنتهي احيانا على سلامة، ببعض الشتائم الزحلية، او بمشكلة اثرها يلعلع فيها رصاص او مشط، فيمشط الخمارة، والحي، فيصبح القول اذا، راحت السكرة وجاءت الفكرة.”