إذا كان “خميس الجسد” في زحلة قد أرسى تقليدا دينيا إجتماعيا سنويا، يعيد إحياء ذكرى الأعجوبة التي أنقذت المدينة من مرض الطاعون في سنة 1825، فإن تعاقب الأجيال على إحياء هذه الذكرى، طور في مفهوم بعض المظاهر المتعلقة بها، حتى صار بعضها عرفا ملازما ل”عيد أعياد زحلة”،  يختزن من  قصص المناسبة وذكرياتها…

من هذه الأعراف إقامة “صمدة القربان” الرئيسية أمام سراي زحلة الحكومي، الذي يتحول محيطه صبيحة كل “خميس جسد” ملتقى للمواكب المنطلقة فجرا، من حوش الأمراء وكساره، وأحياء السيدة والمعلقة والحمار، وحي مار نقولا، ودار الأسقفية الكاثوليكية، يتقدمها أساقفة المدينة، الذين تجمعهم في هذا اليوم صورة واحدة مع أطياف المدينة المتنوعة، تشكل “عنوانا” لما عرف عن الزحليين من تكاتف في جميع ملماتهم. لينطلق من هذه النقطة “موكب الجسد الموحد” شاقا بولفار المدينة بالصلوات والتراتيل، ومتوقفا لتكريس المؤمنين عند الصمدات الصغيرة في الأحياء،  إلى أن تستكمل المسيرة بقداس موحد أيضا في كاتدرائية سيدة النجاة.

“الصمدة الرئيسية” إذا، تشكل رمزية كبيرة في هذا الإحتفال، فهي مكان الإلتقاء الديني والسياسي والإجتماعي الأول الذي يسبق موكب الزحيليين الموحد في تطواف خميس الجسد. ومع أن الظروف المختلفة التي مرت بها زحلة، قد سلبت من “عيدها” وهجه السابق، إلا أن “الجهد المبذول في تجسيد هذه الصمدة” لا زال هو هو.

ما لا يعرفه الكثير من الزحليين، أن هناك تقليدا خاصا تكرس حول هذه الصمدة ايضا لأجيال. هو عرف إرتبط بشبان مندفعين من حارة التحتا، يتبعون رعية مار جرجس، تطوعوا لتزيين مسار “الجسد” بدءا من غرفة التجارة الى ساحة السراي الحكومي، فتوارث المهمة من بعدهم أولادهم، مضيفين إلى التحضيرات من مواهبهم الخاصة.

كلما حل “الجسد” يطلب أبناء حارة التحتا الرحمة لأرواح كل من جوزف بو عبيد، خليل الزماطة، ميشال جحا، المختار عادل قبلان، وغيرهم ممن حملوا طيلة السنوات التي عاشوها، مسؤولية  تأمين إستقبال لائق لشعاع النور في خروجه من محبسه لمرة واحدة في السنة.

كان هؤلاء الى جانب جان راباي المقيم حاليا في كندا من بدأوا بإدراج فكرة الصمدة أمام السراي الحكومي. إلا أن الفكرة معهم بقيت بدائية، ومقتصرة على زاوية صغيرة، تعلوها صورة لقلب يسوع، وتنبعث منها رائحة البخور. الى ان تسلم الشعلة الجيل اللاحق في الحي.

مع الجيل التالي بدأ العمل على تحسين فكرة الصمدة، عبر الإستفادة خصوصا من موهبة الخطاط سليمان بو عبيد في الرسم.  فبدأ شباب الحارة يتحدون أنفسهم، في تجديد الصمدة سنويا بأفكار تحافظ على رمزيتها، وتظهر جمالية خاصة في آن معا.

منذ 35 سنة يشرف سليمان بو عبيد شخصيا على كل تفصيل يتعلق بصمدة خميس الجسد الرئيسية، يضع فكرتها، يصمم أجزاءها، يركبها، يحرص على حسن إدارتها ومن ثم يفككها.

لم يغب بو عبيد طيلة هذه السنوات سوى مرة واحدة، كان ذلك قبل أن يطلب المطران اندره حداد  تشكيل لجنة من أبناء حارة التحتا، كلفوا بالمهمة بشكل دائم، بحيث باتت إقامة المذبح مسؤولية تلقائية تلقى على عاتقهم، ويباشرون بالتحضير لها، حتى من دون أن يطلب ذلك منهم مباشرة.

ينطلق بو عبيد عند وضع التصميم الجديد لكل صمدة، من فكرة أساسية، وهي أن ما يجري تصميمه هو مذبح في الهواء الطلق، وليس مسرحا، حتى لو تعددت إستخداماته، ليتحول الى استوديو إستخدم للبث التلفزيوني المباشر في السنة الماضية. ومن هنا يقول ان أفكارا كثيرة إقترحت للتغيير في تصميم الصمدة، ولكنها كلها كانت غير قابلة للتنفيذ.

إنطلاقا من هذه الروحية التي يجب أن تعكسها الصمدة، عمل بو عبيد في المقابل على خلق مشهدية مختلفة في كل سنة، قوامها الصورة الكبيرة التي تتوسط خلفيتها، والتي كان في البداية يرسمها يدويا.

يروي بو عبيد أنه في أحد السنوات  حضر المطران حداد ليطل من  مشغله عبر شاشة “تيلي لوميير” بحديث تلفزيوني عن التحضيرات للعيد، حيث جرى تصوير مراحل إنهائه الصورة تزامنا مع الحديث.

صحيح أن دخول وسائل التكنولوجيا إختصرت من الوقت الذي يحتاجه رسم الصورة، التي كانت المكونها الأساسي فوق مصطبة صغيرة، يصعد اليها الاساقفة مع القربان المقدس لمباركة الجموع، إلا أن الإضافات التي أدخلت على تصميم الصمدة، صارت تتطلب وقتا أطول لإنجازها. الصورة صارت تتوسط أمام السراي، الهياكل التي تجسد تصميم الكنائس ومذابحها، والأخيرة يحتاج تجسيدها الى ساعات من العمل في الفلين المضغوط، وتحضير كل جزء منها داخل المشغل كما يشرح بو عبيد، لتنقل عشية العيد مع الأثاث المطلوب، الى ساحة السراي، حيث يجري أيضا تحضير أرضية المسرح مع الدرج المؤدي إليه من حجارة اللبن والواح الخشب، لتفرش بالموكيت والسجاد العجمي، وتجهز بكراس مخملية مخصصة لجلوس الأساقفة. وتستكمل المهمة فجر اليوم التالي بتزيين المكان بالورد.

 لم يستسخ بو عبيد مرة فكرة سنة لسنة أخرى. ولكنه يشرح أن هناك ثوابت  صارت معتمدة في تجهيز الصمدة، ومنها ما يتعلق بمساحتها التي تمتد على طول 12 متر وعرض 4 امتار لتغطي جزءا من واجهة السراي، يتوسطها مذبح، يجهز بداية بشعاع النور الذي يحضر سنويا من كنيسة مار جرجس في حارة التحتا، قبل ان تجتمع شعاعات النور التي يحضرها كل من الاساقفة، فيحل الشعاع الكبير من  كاتدرائية سيدة النجاة على المذبح ليكرس به المؤمنون.

لا يعتبر بو عبيد أن الضوء الذي تسلطه مشاركة بعض الضيوف المميزين،  كمثل مشاركة البطريرك الكاثوليكي الأولى في المناسبة سنة 2016 ومعه السفير البابوي، يزيد من عبء المسؤولية الملقاة على عاتقه، لأن المسؤولية الأولى كما يقول هي تجاه أبناء زحلة، الذين يرى  أن عليهم في المقابل الحفاظ على هذا التقليد، برمزيته الدينية الإيمانية أولا، وبرمزيته الإجتماعية.

لا ينام الشباب الذين يتولون المهمة عشية العيد. ومعهم تسهر القوى الامنية والشرطة البلدية التي تحرص على بعض التنظيمات اللوجستية، وعلى حماية التجهيزات الثمينة الموجودة على المذبح.

أما تراجع عدد المشاركين بالمناسبة، فلن يغير شيئا بالنسبة للحماس في التحضير للمناسبة، وبالتالي فإن الجهد نفسه سيبقى  يوضع في تنفيذ هذا المذبح كما يؤكد بو عبيد، سواء كان عدد المشاركين بالمناسبة مئة أو ألفا.

دعوة للمشاركة الكثيفة

يذكر أخيرا أن خميس الجسد هذه السنة سيقام في 20 حزيران المقبل، والتعويل على المشاركة الكثيفة، من الزحليين أولا، حتى يحافظوا على هذا التقليد الجميل الذي أورثنا إياه أجدادنا، فتبقى سلسلة توارثه معقودة الى الأجيال المقبلة.

كيف ورثناه وكيف سنورث هذا التقليد شاهدوا الرابط التالي”