لطالما كانت المازة والعرق رفيقان، ثالثهما “الجلسة” الحلوة في وادي زحلة.

قامت هذه “المازة”  في عهد “الجلسة تحت الصفة” على حواضر البيت من اللبنة المكعزلة، الباذنجان المكبوس، البندورة، التبولة. ليدخل عليها لاحقا الفتوش، وتكبر التشكيلة وتتطور حتى باتت تضم حاليا نحو 80 صنفا. تتضمن الحمص والمتبل وورق العنب الملفوف والبطاطا وغيرها.

وفقا لما يروى، كان لرواد البردوني من المشاهير رأي في بعض الاطباق التي دخلت من ضمن مائدتها الغنية ، منها ما كتبه الصحافي محمد بديع سربيه في سنة 1993  تحت عنوان “أيام جارة الوادي وذكرياتها في ليلة قاهرية”،  حيث يقول “ان الموسيقار محمد عبد الوهاب، روى له الحكاية التالية: “كنت ذات مرة أتناول العشاء مع بعض الاصدقاء في مطعم عرابي، وأخذ المتر يقدم لنا أطباق المازات المختلفةـ وكان بينها طبق يحتوي على قطع من الكبة المقلية وكانت مستطيلة الشكل، أستأذنت صاحب المطعم رشيد عرابي بأن أقترح على طباخ المطعم شكلا جديدا لهذه الكبة، فجاء به الي، وقلت له، هذه الكبة الا تستطيع ان تجعلها على شكل الفلافل، فقال لي ممكن جدا، فقلت كويس ولكن لا تقليها بالزيت بل اشويها على الفحم، واستغرب الطباخ هذا الاقتراح ولكنه وافقني عليه، وجرب العملية وخرجت قطع الكبة المشوية رائعة ولذيذة وخفيفة على المعدة، واقترحت عليه يومها أن يسميها طبابيش ولا اعرف اذا كانت هذه لتسمية لا زالت موجودة”.  ما يروى أيضا أن  السيدة  “ام كلثوم” صارت لاحقا في ترددها على المطعم من أشد المعجبين بالطبابش، وقد سمتها “القنبلة اللذيذة”.

لا يغير الزمن من وقع الحكايات المروية عن البردوني ومقاهيه، يذكرها الزحليون بروحهم المرحة، ليتحدثوا عن ملوك وامراء وشعراء وفنانين ومشاهير من ألوان وأجناس مختلفة مروا في الوادي، تركوا فيها أثرا طيبا، وحملوا منها ذكريات أطيب. فساهموا بتعرفهم على الأكل الزحلاوي بنقل شهرته الى الخارج، فكان أن مد هذا المطبخ  جسرا جويا بين زحلة والأمم المتحدة في أحد مؤتمراتها التي إنعقدت سنة 1980.

فكيف تطورت هذه المقاهي في منطقة البردوني؟

في دراسة أعدتها الباحثة بتاريخ زحلة الدكتورة حياة القرى تلفت الى إحصاءات لبلدية زحلة تتحدث عن نشوء 7 مقاهي في هذه الفترة، ليصبح حتى سنة 1897 اربعة عشر مقهى وبستنة وخيمة يقدم المآكل والمشارب على انواعها، وخصوصا العرق مع مازته.

  كانت المطاعم في بداية نشأتها،  تقدم خدمات بسيطة، كنتف الدجاجة لشويها، وتأمين الفحم للنرجيلة. الى ان بدأت هذه المنطقة تجذب الافكار الاستثمارية، التي تطورت  لتكون “المنطقة السياحية” الحالية.

في البداية كان الرواد يجلسون الى طاولة من دون شرشف وكان العرق يعبأ من الخوابي مباشرة، والمياه من نبع البخاش. ثم اضيفت الشراشف واستحدثت الحمامات واوليت النظافة وحسن الاستقبال اهتماما أكبر.

يضيف الصحافي الراحل انطوان ابو رحل في مقالة منشورة سنة 2014 بجريدة الروابي نقلا عن جريدة “الوادي” الزحلية أيضا: “ان الوادي في غالبيته كان الى الجهة الشمالية منه للرهبانية الباسيلية الشويرية ولا يزال. ولفؤاد الصدي أحد رواد إقامة مقاهي في زحلة جملة مأثورة عندما وقع عقد الوادي ليشغل المقهى المعروف اليوم بكازينو عرابي،  اذ قال “لا ينقص كأس العرق الا كرسي الإعتراف”.

ويضيف”قصد الوادي باكرا حتى مشارف قاع الريم هواة المشي السريع وتنشق الهواء اللطيف المشبع بأنفاس العرائش والأشجار، وكان بعضهم يعرج على مقهى بشارة قريطم لتناول ثمرة التوت رأسا من الاغصان.

ووفقا للمقالة نفسها “فإن قريطم مهّد الدرب، وهذّب الجبل، ورشّق الساقية، وقد جاراه بذلك مقهى نمير لصاحبه وديع نمير ونجليه موريس وفوزي. وانضم الى مسيرة أسياد الوادي جان عرابي، ومخايل مهنا، والأشقاء جوزف وجورج وايلي وابرهيم قريطم”.

وساهم التجديد في تغيير معالم الوادي، فإختفى التراب وارتفعت الاسوار، ولتبديد المفاهيم السائدة اعتمد نقولا الوف وشركاؤه السادة وديع نصرالله وجورج شمعون، جورج سويد، ونجيب حنكش وفؤاد ابو منصور وخليل بحمدوني، وهم آخر من قدم الى ساحة الوادي، العودة الى الطبيعة وإبراز رونقها فكان كازينو الوادي في العام 1956 جنة الله على الارض.

عمليا لا تنفصل صناعة الطعام في زحلة عن طبيعة المنطقة الزراعية، والتي تعتمد على مواردها الطبيعية بشكل اساسي من اجل تكوين إنتاجها.

واذا كانت الكرمة تقدمت على ما عداها، في تأمين انتاج العرق “الاشهر” زحلاويا، فإن موارد السهل خلقت بالمقابل التنوع على المائدة الزحلية، وأوجدت “صناعات غذائية” دخلت في صلب هذه المائدة الزحلية. بدءا من انتاج سهل البقاع للقمح، والذي ولدت حوله صناعة الطحين والبرغل، والاخير اشتهرت زحلة بصناعته، ليدخل كمكون اساسي في العديد من الاطباق، ولا سيما في طبق زحلة الالذ “الكبة” النية، والتي لا تضاهيها اي كبة أخرى في المدن التي اشتهرت بصناعتها.

وإذا كان من الصعب تخيل زحلة من دون الوادي، فإنه أيضا من الصعب تخيل الوادي من دون “البوظة” الزحلاوية، والتي لا تكتم التمشاية في الوادي من دون الاتمتاع بقرن منها او صحن في جلسة منعشة.

الى السمسمية التي تختزن في صناعتها تاريخ عائلات إشتهرت بها ونقلت شهرتها ايضا الى العالم

هذه التفاصيل التي تكون “طعم زحلة” المميز كانت المقومات الاساسية التي سمحت للمدينة بدخول شبكة المدن المتميزة التي انشأتها الاونيسكو. والتي صارت زحلة عضوا فاعلا بينها منذ سنة 2013. ليشارك وفد من البلدية يضم كل من الرئيس اسعد زغيب وعضوي المجلس جان عرابي وميشال ابو عبود في إجتماعها السنوي العمومي حاليا، حيث كان لرئيس البلدية مساء اليوم كلمة في المجلس العام لرؤساء البلديات.