اعتبرت صناعة الخبز جزءا من التركيبة الإجتماعية الإقتصادية لمدينة زحلة منذ نشأتها على أرض غنية بالمياه وبمواسم الحنطة ووفرتها في أرض البقاع. فإزدهرت أولا المطاحن التي نشأت على ضفتي نهر البردوني منذ سنة 1760، وكانت تدار بقوة دفع المياه، لتبدأ صناعة الخبز، كمنتج إقتصادي، مع وصول الإرسالية اليسوعية سنة 1835، بحيث إنتقل تحضير الخبز من كونه حرفة تنتج منزليا، الى مهنة أمنت الإكتفاء الذاتي لزحلة حتى في أحلك الظروف.

كان خبز “التنور” هو الرائج في زحلة بداية، تصنعه سيدات البيوت في منازلهن، الى أن استقطبت المدينة أهل الجبل الهاربين اليها أثناء الحرب العالمية الأولى، فأحضر هؤلاء معهم تقنية “خبز الصاج”، الذي راج خصوصا لكونه يخفف من مصاريف الإنتاج وأعبائه.

بقيت الافران على بساطتها،  الى ان عرفت زحلة إنتاج الكهرباء وتوفيرها بدءا من سنة 1927، وعندها ترافق إزدياد عدد الأفران والتي صارت تعد ما بعد الحرب العالمية الثانية نحو 68 فرنا، مع تطور في نوعية الخبز المقدم ايضا، وكان خبز “الكماج” المتماشي في تركيبته مع الأطباق الزحلية التي تؤكل بمعظمها مع الخبز.

لا يزال الجيل القديم يذكر الروائح التي كانت تنبعث من هذه الافران في كل الأحياء، ويتحدثون عن طعم الخبز المختلف عندما ينضج على أرضية الصخر التي ميزت الأفران القديمة، والتي كانت تحتاج تحميتها ساعات، وتحافظ على حرارتها لفترة طويلة.

لا شك أن صدمة الإنتاج الآلي الأسرع والأقل كلفة، شكلت العبء الاقتصادي الأبرز على هذه الأفران “العائلية”، منذ بدأت هذه الأفران الآلية بالظهور في تسعينيات القرن الماضي. إلا أن ظروفا أخرى ساهمت في ال”تقاعد” المبكر لهذه الأفران، بينما كانت لا تزال في عز عطائها.

الأحداث التي مر بها لبنان، دفعت الى هجرة هذه الحرفة مع أصحابها، فتأسست مخابز على إسم مؤسسيها الزحليين في بلدان الإغتراب، فيما حولت أموال إستثمارات أخرى الى أماكن أخرى، بمقابل ضمور صناعة خبز “الكماج” بأفرانه التقليدية في زحلة.

حتى مطلع القرن العشرين، كانت هناك بضعة أفران لا تزال تؤمن هذا الخبز لزبائن معدودين، بقيوا بعاندون مكننة الرغيف. إلا أنه منذ سنوات عدة، لم تعد أي من الأفران التقليدية القديمة التي عرفتها المدينة تؤمن خبز “الكماج”، وكان عليها حفاظا على إستمراريتها، التحايل على “المصلحة” من خلال إنتاج أنواع أخرى من المعجنات، كالقربان، الصفيحة، المناقيش، الكعك، الخبز السمون، ليظهر نوع آخر من الخبز الذي تميزت به هذه الأفران، وهو “المشطاح”.

فرن “ابو الياس”  في حي الميدان كان واحدا من اول من ادخل المشطاح الى انواع الخبز في زحلة، بعدما احضر سره كما يقول ابنه الذي ورث المهنة،  من الاردن. رغب بهذا المشطاح الكثير من ابناء البقاع وكانوا يقصدونه من كل القرى حتى عرف بالمشطاح الاطيب. ضم ابو الياس المشطاح الى انواع الخبز التي لعبت دورا في تأمين “غذاء” الزحليين الأساسي، سواء في ازمة سنة 1967، او في حرب سنة 1975 وخلال حصار المدينة سنة 1981. ومثله فعلت العديد من المخابز التي بقيت شغالة  طيلة هذه الفترة كأفران صليبا ودروبي والقاري، والفرّن، وابو رياض وابو مارون وغيرهم…

سنة 1992 بدأ دخول الفرن الآلي، الذي نجح بخطف وهج الأفران التقليدية، وخصوصا مع توفير إنتاجه في المحلات والدكاكين المنتشرة بكل الاحياء، في نمط شبه يومي يسمح بوصول الخبز طازجا الى المستهلكين. وفي سعي أصحاب الإستثمارات لإرضاء الأذواق المتبدلة والمختلفة، قامت بعض الافران بإبتكار خلطات جديدة تميز طعم خبزها او نوعه، وهو ما فرض تجهيزات ضخمة إضافية حتى في تشييد هذه الأفران الآلية.

الإستثمارات الضخمة التي وظفت في القطاع، غيرت أيضا من السلوك الإجتماعي حول هذه الأفران، والتي لم تعد وظيفتها بيع الخبز فقط، بل مزجت بين خدمة مقاهي الرصيف وتوفير المواد الغذائية الاستهلاكية الى جانب الخبز، بحيث صار بعضها مراكز تلاق، سواء على طاولة بريدج، او في حلقة إجتماعية، او في حلقات  للنقاشات السياسية، او حتى لإستراحة سريعة.