في نطاق زحلة البلدي “جنة حقيقية على الارض”. موقعها في تلك الأراضي الزراعية الممتدة على مسافة 240 هكتار من دير تعنايل، بمحيط “بحيرة”، شكلت منطلقا لفكرة سياحية بيئية، انطلقت بزخم كبير منذ سنة 2010، بعد مدة قصيرة من تسلم إدارتها من قبل جمعية اركانسييل، بموجب خطة وضعها العضو المؤسس في الجمعية بيار عيسى، لتفتح الصفحة على مرحلة جديدة من تاريخ الدير وأملاكه في هذه المنطقة، بعد أن كانت  هذه الأملاك الخاصة التابعة للرهبانية اليسوعية “مغلقة بالحلال” على كل الناس،  ولكن ب”الحرام” بقي يتسلل اليها الصيادون والناس من مختلف الأنحاء، يخلفون فيها مهملاتهم، متسببين ببيئة غير مريحة، قلصت من دور الدير الإيجابي في المحيط، وخصوصا في سنوات الفوضى التي تبعت الأحداث .

إلا كرسي الإعتراف

يقول عيسى ممازحا  أن “أركانسييل” تسلمت كل شيء في الدير مبدئيا “ما عدا كرسي الإعتراف” في إشارة الى النقلة النوعية التي شهدتها إدارته، والتي بدأت تحصد النتائج بدءا من سنة 2016، وخصوصا في إيصال الرسائل الإنمائية والإنسانية التي تؤمن بها الجمعية.

تخلى عيسى طوعا عن مهماته الإدارية في أركانسييل منذ أربع سنوات، ليخلف نموذجا عن ما يمكن ان يحققه العمل “المؤسساتي” من إستدامة. ومع ذلك تبقى أركانسييل بالنسبة له كـ”إبن” كبر، يتابع خطواته من بعيد، ولكنه يتركه ليشق طريقه بشكل مستقل.

جمعية تشرق على الكل

الحديث عن ما وصل اليه دير تعنايل حاليا، لا يستقيم من دون التوقف عند “أركانسييل” ورسالتها الاساسية التي إنطلقت من لبنان. فهي جمعية تجمع كل الألوان لتشرق على كل الناس، من دون تمييز لا في الجنسية ولا الطائفة ولا العرق.

مع أن عيسى هو ابن حارة عيسى الملاصقة لأراضي الدير، فإنه لم يتوجه بأعمال الجمعية التي أسسها الى منطقته، إلا في مرحلة أخيرة، حينما باشر في التسعينيات بإنشاء مركز أركانسييل الحالي، مع بيوت الضيافة الترابية و”خان المقصود” التي شكلت نقطة إستقطاب سياحية بيئية، أضيفت الى المهمات الاخرى التي إتخذتها الجمعية على عاتقها، لسد حاجات المنطقة، ولا سيما بالنسبة للمقعدين وأصحاب الإحتياجات الخاصة، والتي سنتطرق اليها في تحقيق منفصل خلال الأيام المقبلة.

عن كيفية إنتقال دير تعنايل الى إدارة أركانسييل يروي عيسى ل”موقع بلدية زحلة” ما يلي:  في سنة  2008 اتصل بي الرهبان اليسوعيون كجار لهم، يشكون أنه منذ وقوع الأحداث اللبنانية، وهم يلاحظون تراجعا في إنتاجية الدير. أقمنا فورا لجنة للتفكير إستراتيجيا في كيفية الخروج من هذه الأزمة، ووضعنا خطة إنقاذية للدير ومزرعة الديرـ تبدأ بوقف الخسارة في السنوات الثلاثة الأولى، لنعيد لهما دورهما الرائد خلال السنوات التي تتبعها. عرضت الخطة على القيمين على الدير، ولكن مشكلتهم كانت في عدم توفر الإمكانيات، ومن هنا ولد الإتفاق مع اركانسييل ابتداءا من ايلول سنة 2009.

مشاريع رائدة

بدأ العمل فورا على خلق مشاريع جديدة، الى جانب الدور المعروف  للدير في إنتاج الحليب ومشتقاته. ليصبح  حاليا رائدا في سلسلة مشاريع إضيفت الى مهماته، تشكل نموذجا لحلول مختبرة، وخصوصا في إدارة النفايات على كافة أنواعها من النفايات العضوية الى المواد التي يمكن تدويرها والى تشحيل الشجر،  وإدارة المياه من المصدر الى التعديات وحفظ الكميات الفائضة والى نوعية المياه وترشيد إستخداماتها وخصوصا في الزراعة، والتي يقول عيسى أنها تشكل 70 بالمئة من كمية إستخدامنا للمياه…

ومع هذه المشاريع وضعت اركانسييل أيضا برنامجا لإدارة البذور المؤصلة، ولإنتاج الأدوية الزراعية البيولوجية، واخرى لمساعدة المزارعين في بعض خبراتها، وكل ذلك في قالب بيئي سياحي، أضيفت من خلاله نشاطات حيوية ساهمت بجذب مزيد من الزوار، الذين الى جانب دخولهم سيرا  على الأقدام نحو البحيرة،   يمكنهم إستئجار الدراجات الهوائية، ليستمتعوا بكل ما توفر لهم من معرفة ونشاطات تسلية تدور حول ما ذكر سابقا، وغيرها من النشاطات.

يضيف عيسى عندما قررنا أن نفتح البحيرة، سمعنا إعتراضات مصدر بعضها عنصري، والبعض الاخر تحدث عن تحويل المنطقة الى مزبلة، ولكننا قبلنا التحدي، بحيث بات عدد زوار البحيرة يفوق ال 180 الفا سنويا، والكل يحترم البيئة في هذه المنطقة ونظافتها.

ويؤكد ن أركانسييل نجحت حتى في  تغيير بعض الذهنيات الاجتماعية، وأمنت “متنفسا” للناس، خفف من التوتر، وربما يكون سمح بتراجع حالات العنف الأسري التي كنا نشهدها. الى جانب ما خلقته من حركة إقتصادية وسياحية وانمائية. جعلت المجتمع يحضن المكان، كما ان المكان يحضنهم.

جولة

فكر… خطط… نفذ… هذا هو الشعار الذي تعمل على أساسه اركانسيل، والذي يبدو جليا من خلال الجولة التي رافقنا خلالها  المهندس المسؤول عن الدير وممتلكاته ايليا غره.

أبعد من السياحة، يكشف التعمق في المشاريع المنفذة من قبل اركانسييل عن نموذج لمشاريع يمكن تعميمها في حل الكثير من المشاكل التي يعاني منها اللبنانيون حاليا، وخصوصا بالنسبة لإدارة النفايات، وترشيد إستخدام المياه في الزراعة، الى جانب المعالجة الآنية لمشكلة التلوث من الصرف الصحي، والتوجه نحو إستخدام الطاقة الخضراء في تشغيل معظم الإنشاءات.

يشرف غره على كل هذه النشاطات، ويتابع تفاصيلها من خلال تطبيقات ذكية على هاتفه، أحدها التي استوقفتنا لقراءة النتائج من محطتي أرصاد جوية إستحدثتا في الدير، وتسمحان بتوقع الاحوال المناخية مسبقا للإستفادة منها في عمليات الري والزراعة خصوصا.

من موقع البوابة الالكترونية يمكننا مشاهدة ألواح توليد الطاقة البديلة التي باتت تعلو  أسطح كل إنشاءات الدير، لتستخدم الطاقة النظيفة المولدة في كل إحتياجاته، الى جانب تأمينها كمية الطاقة اللازمة للبراد الزراعي، الذي إستحدث مؤخرا، لمساعدة المزارعين في جمع كميات الإنتاج وحفظه  قبل عملية التصريف.

قبل ان ندخل البوابة، نلاحظ تجهيزات المعرض الدائم للمنتجات الزراعية  في “سوق بيت المزارع” الذي صارت أراضي الدير تستضيفه كل سبت وأحد لتشجيع المزارعين في بيع إنتاجاتهم. وهي واحدة من نشاطات أخرى تقام في أراضي الدير أيضا، الى جانب السماح  للصيادين في كل أول إثنين من الشهر بالبحث عن رزقهم في مياه البحيرة.

عند نقطة الدخول يتحدث غره، عن أكثر من 183 الف زائر دخلوا البحيرة فقط سيرا على الاقدام خلال السنة الماضية، مشيرا الى نظام ال  bracelets او الاشرطة الالكترونية لتي زود بها كل داخل سمح بتحديد ساعات الذروة، وذلك للإستعانة بالشبان الراغبين بالعمل بشكل جزئي، حيث يصل عدد هؤلاء أحيانا الى 64 شابا يعملون مداورة في المشروع.

تختلف بداية الجولة مع المهندس المشرف على الاملاك، عن الزيارة التقليدية التي نتوجه بها جميعنا نحو البحيرات فورا.  فتبدأ من معمل لإنتاج الحطب من مخلفات التشحيل، والذي صار منتجا مطلوبا في الأسواق وبكلفة اقل على المستهلك.

خلفه مباشرة معمل يعالج المواد التي يعاد تدويرها، حيث يشترك غره مع عيسى في المعرفة التي تقول “لا شيء يخلق.. ولا شيء يضيع ويختفي… كل شيء يتحول”. وإنطلاقا من هذه القاعدة تدار النفايات، عبر إيجاد الحلول لكل نوع من أنواعها. وحتى النفايات العضوية التي تصل خالية من الشوائب الى الدير، فتخلط مع روث البقر، ويتم معالجتها، لتتحول سمادا صالحا للاراضي الزراعية.

تثير الجولة إهتماما اكبر عند التعرف الى بيت البذور المؤصلة، والذي بني من الطين ليتناسب مع طبيعة المكان الذي وجد فيه، مثلما هو حال بيت الموسيقى الذي شيد في 12 يوم فقط، وصار يحتضن العديد من النشاطات الموسيقة في الموقع، وحتى الحمامات التي بنيت بالطين، وجهزت بمحطة صغيرة للمعالجة، تسمح بإستخدام المياه المكررة فورا للري.

هنا يمكن التوقف أيضا  عند بيوت الطين التي تستضيف عائلات الحيوانات  تعرف الأطفال خصوصا  الى طريقتهم بالعيش، كمشروع تثقيفي بيئي يخلق مزيدا من الاهتمام حول المحمية.

لتبدأ الرحلة  الى منطقة البحيرات، حيث ارست أركانسييل تجربة رائدة  للنظافة من خلال نشر مستوعباتها التي تسمح بفرز النفايات في الارض، وتشرك الزوار في ابقاء المكان نظيفا، تماما كما يحرص كل منا على نظافة بيته.

عند مدخل البحيرة الأساسية التي شكلت عنصر الجذب الأول للسواح، يمكن مشاهدة قناة مصنوعة من الباطون، مجهزة بالمصافي. هذه قناة تنقي مياه نهر شتورا، مثدر المياه في البحيرة، من الشوائب الفيزيائية، الوحول والنفايات الصلبة، التي يحملها المجرى معه من المحيط، فتتم معالجتها في محطتين اساسيتين، قبل أن تصب في البحيرة. كانت القناة مصنوعة من الطين، إلا أنه بعد ان لوحظت كمية المياه التي تهربها إستبدلت بإنشاءات من الباطون.

 إلا أن هذه المعالجة الفيزيائية تبقى منقوصة إذا لم يتم إيجاد حل لمشكلة الصرف الصحي التي تصب في معظم أنهرنا، وهنا أيضا تم تركيب نظام تنقية سهل وقليل الكلفة، يعرف ب  BUBLING SYSTEM  يضخ الأوكسيجين في البحيرة، فيحيي البكتيريا التي تبحث عن طعامها من المواد العضوية التي تحملها المجارير وبالتالي تنظف المياه منها. وقد إعتمد في هذه التقنية نظامي الطاقة الهوائية والطاقة الشمسية. وذلك تطبيقا لتعهد دير تعنايل واركانسييل بتطوير حلول مبتكرة ومستدامة لتحسين إدارة الموارد المائية.

مفرح مشهد البحيرة التي لا تزال تمتلئ بالمياه في شهر ايلول، بعد سنوات شح جعلت منسوبها يتقلص بحجم كبير في السنوت الماضية، ويعيد غرة السبب في ذلك الى الطبيعة التي أغدقت علينا بالمياه خلال الشتاء الماضي، والى طريقة ترشيد إنفاق المياه الذي سمح بالحفاظ على كميات المياه لمثل هذا الوقت من السنة وذلك عبر تركيب محطة ضخ وشبكة ري لوقف الهدر وحفظ المياه. علما أن المشهد العام تبدل في محيط البحيرة، وبدل البحيرة صار هناك ثلاث بحيرات.

ZIP LINE  للمقعدين

يشرح غرة أن البحيرة الاساسية الكبيرة أنشئت في الستينيات لري مساحات الأراضي المجاورة، ولكن مع التبدل المناخي، لاحظنا أن الأمطار صارت تهطل بكمية اكبر بوقت اقصر، وبالتالي صار هناك حاجة لتجميع المياه في أوقات هطولها. كان هناك فكرة لتعميق البحيرة الحالية نحو متر واحد لتستوعب 70 الف متر مكعب إضافية، إلا ان رأي المهندسين قال بأن ذلك سيؤدي الى “غور المياه” ولذلك كانت الخطة التالية حفر بحيرة ثانية مجاورة، ولكن عندها صارت لدينا كمية 50 الف متر مكعب من الاتربة كلفة التخلص منها مرتفعة جدا، ولذلك عملنا على إستخدامها لإنشاء بركة ثالثة. طبعا الهدف الرئيسي لزيادة هذه البرك تأمين الري للمزروعات، ولكنها أيضا شكلت قيمة سياحية إضافية وسمحت بإطالة مسار الناس حول البحيرات، لمزيد من التمتع بالبيئة، وبالنشاطات التي خلقت بوسطها، كال  ZIP LINES التي باتت أحدها مخصصة ايضا للمقعدين، وألعاب التسلق وغيرها من الألعاب الرياضية التي تظهر الصفات الرجولية عند الشبان خصوصا، من دون أن يضطروا لإستعراضها عنفيا.

ما يميز منطقة البحيرات انها موجودة بشكل ملاصق للطريق العام، ومع ذلك عند الدخول اليها تتحول المنطقة الى غابة شبه معزولة عن محيطها. السكون الذي يميز المكان منذ لحظة اجتياز المدخل يجعلها فسحة للإختلاء بالذات، حتى في ذروة اعداد الزائرين الذين يمكنهم الارتياح على مقاعد الباطون الشبيهة بطبيعة المكان.

وعليه يبدو مزار السيدة العذراء بإطلالته على البحيرة الأساسية ، في مكانه المناسب. قرب هذا النصب حفرت صلوات وآيات  تتحدث عن مريم في الانجيل والقرآن كتأكيد على كون العذراء توحد جميع الناس، مثلما هي البحيرة. فهنا لا تمييز بين الناس، وجميعهم يتمتعون بفسحة من الحرية، مع الحفاظ على حرمة المكان ونظافته.

قبل إنتهاء الجولة أخبرنا غره أنه في تعنايل التي تنقصها شبكة الصرف الصحي، بسبب عدم تجهيز محطة التكرير في المرج لوصلها بها، قامت إدارة الدير منذ سنة 2010 بإستحداث شبكة خاصة تعالج مياه الصرف الصحي من الدير والملبنة والمزرعة والحمامات ومن السياحة، ربطتها بمحطة تكرير تعالج المياه ليعاد إستخدامها في الري، وقد قصدت أن تكون التجهيزات ظاهرة للعيان، لتشكل نموذجا لإمكانية إيجاد الحلول إذا كانت الإرادة موجودة.

لأركانسييل تجارب أخرى رائدة في نطاق زحلة وبلديتها. سنلقي عليها لضوء في تحقيقات لاحقة، والى ذلك الحين لا تفوتوا على أنفسكم فرصة المعرفة، فهذا مشروع بيئي سياحي تثقيفي في نطاق زحلة، تعرفوا خلال جولاتكم على البحيرة الى كل تفاصيله، وأنقلوا المعرفة لأولادكم إذا رغبتم.