مشهدان سياحيان يمكن ملاحظتهما على أبواب ٌإقتراب الصيف من  نهايته. فمن جهة بدأت مقاهي وادي البردوني، بالتقليل من قدراتها التشغيلية، تمهيدا لطوي صفحة موسم، مر هذا العام بظروف جيدة  قياسا الى صعوبتها .. ومن جهة ثانية، يبدو وسط المدينة ماض في سياحة مستدامة، أمنها تفشي ظاهرة المرابع الليلية والحانات، الى جانب إزدياد عدد المقاهي، والمطاعم، والأكشاك، بحيث أحصت بلدية زحلة- معلقة وتعنايل نحو 43 مؤسسة جديدة إنضمت الى سابقاتها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، في تأمين خدمة تستهدف الفئة الشابة بشكل اساسي.

لم يعد خافيا أن زحلة تشهد حاليا تغييرات في المفهوم السياحي العام، أو أقله إضافات الى مفهومه السائد منذ عقود، قوامها تنامي حركة سياحية ليلية، يمكنها إذا ما تكاملت مع توسيع المنطقة السياحية في البردوني، أن تخلق حركة سياحية دائمة في المدينة على مدار السنة.

مقاهي البردوني لا تزال الأولى

إلا أن هذا التطور بمفهوم السياحة، لن يكون إطلاقا على حساب البردوني، وشهرة زحلة التي إنطلقت منه، كما يؤكد رئيس لجنة التنشيط السياحي في بلدية زحلة وعضو نقابة اصحاب الفنادق جان عرابي.  فعلى رغم كل الظروف، البردوني لا يزال اقوى منتجع سياحي في لبنان. وبفضل خبرة الزحليين في هذا القطاع، لا زال العلامة الفاصلة بالسياحة الزحلية، ولكن بوتيرة تتناسب مع الأوضاع الاقتصادية التي تراجعت قليلا.

في شرح لذلك يقول عرابي”في الماضي كان هناك في لبنان 1260 مطعما، يستقطب 60 بالمئة من اللبنانيين و40 بالمئة من الاجانب. إرتفع عدد هذه المطاعم الى  12 الفا حاليا، ولكن قدرة الجذب تراجعت الى 25 بالمئة بالنسبة للبنانيين، و7 بالمئة للأجانب، ومع ذلك بقي البردوني من الأكثر إستقطابا لهذه الفئات.

وهذا برأي عرابي، مؤشر على رسوخ البردوني في أذهان الناس، كمصدّر للمائدة الزحلية الى المدن اللبنانية عموما، ما يجعل هذه الميزة ركيزة أساسية في سياحتنا، نحاول أن نطورها من خلال إنضمامنا الى سلسلة مدن الأونيسكو المبدعة عن فئة الغاسترونومي، مع عصرنة الخدمة، التي يمكن تظهيرها بشكل أفضل من خلال إستكمال مشروع توسيع المنطقة السياحية في البردوني.

فعندما تكون شهرة زحلة بالمائدة مصدر دخل لأبنائها، من الطبيعي أن تولي البلدية إهتماما خاصا للقطاع، وهذا كما يقول عرابي ما نفعله من خلال سلسلة مشاريع ستبدأ بالظهور في المرحلة المقبلة،  تعزز مكانة المدينة بشكل أكبر في هذا المجال، وتولد فيها نوعا من الإستقرار الإجتماعي والإقتصادي.

وفي هذا الإطار يتحدث  عرابي عن توجه للإستعانة بمتخصصين في وضع معايير جودة لكل المؤسسات السياحية،   تعنى بالسلامة الغذائية، وبالخدمة الجيدة للزبائن، والمهنية العالية والإشراف التقني على نوعية ما تقدمه هذه المؤسسات.

تشجيع القطاع السياحي

يؤكد عرابي  أن البلدية ماضية بتشجيع القطاع السياحي، بصرف النظر عن حالة اللاإستقار السياسي، وهي نجحت الى حد كبير بخلق مناخ قد تبدأ بحصاد نتائجه في السنوات المقبلة،  ولا سيما من خلال السمعة التي إكتسبتها المهرجانات والنشاطات المتنوعة التي نظمتها هذه السنة، والتي جعلتها تستقطب الأنظار، وخصوصا إثر الزيارة التي قام بها رئيس الجمهورية للمدينة، وهي من الزيارات النادرة له للمدن اللبنانية.

تفعيل العمل السياحي المتخصص

منذ تسلمت لجنة التطوير السياحي مهماتها، وضعت نصب عينيها كما يقول عرابي، تفعيل العمل السياحي المتخصص في زحلة، “فنحن نطرح الأفكار، ونرى امكانية تلقفها من القطاع الخاص، وإذا تلقفوها تكون البلدية داعمة لهم، وتسعى كي لا تعترضهم المشاكل والعراقيل..”

هذه السياسة شكلت حافزا لظهور عدد كبير من المقاهي والمطاعم والنوادي الليلية والحانات، وإنفلاش الحياة الليلية التي بدأت تأخذ مسارها في تحديد دور إضافي لزحلة، ما يعكس محاولة من قبل المجتمع لتطوير نفسه  قياسا الى المتطلبات …

يشرح عضو لجنة التنشيط السياحي فيليب ملحم ماهية الدور الذي تلعبه البلدية على صعيد “إحتضان” هذه المتغيرات بالمفهوم السياحي العام في زحلة. وبرأيه أن البلدية تركت إنطباعا بتبني هذه المشاريع الجديدة  في المدينة، منذ  النشاط الأول الذي نظمته بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنسي على بولفار المدينة في يوم عيد الموسيقى العالمي بحزيران  2016 ، أي بعد شهرين من إنتخاب المجلس الحالي، عندما تحول بولفار زحلة الى مسرح كبير مع شاشات ضخمة وتجهيزات صوتية عالية، مع الإستعانة  بفرق موسيقية من بيروت لإعطاء المناسبة الزخم اللازم، فكانت هذه نقلة نوعية في إحياء المناسبة التي كان المركز الثقافي الفرنسي ينظمها على مستوى ضيق.

يقول ملحم، أن الفكرة الاساسية التي إنطلقنا منها، هي الإضاءة على الطاقات الزحلية، التي تكتسب شهرة في عالم الموسيقى بأكبر حانات بيروت ونواديها الليلية، وهؤلاء أشخاص متخصصون بالموسيقى العصرية التي تحترم الأذان، وبتقديم الفرق التي تبعث الحماس…

كانت هذه الإنطلاقة لإستكشاف مواهب زحلية، لم تكن تخرج من الأطر المغلقة في أوساطها، وهنا بدأت فكرة تنظيم هذه الفرق  وتشجيعها على الظهور، حتى بات لها جمعية خاصة، وأخذت بإطلاق الفرق الموسيقية  في جميع المناسبات، والسهرات، الامر الذي شكل حافزا لإنطلاقة واسعة للنوادي الليلة ومرابع السهر.

إنما هذا الأمر فرض على البلدية أن تتدخل مجددا لتنظيم عمل ال pubs  وال night clubs، لا سيما ان معظم هذه الإستثمارات نشأت في أوساط مأهولة سكانيا، وهناك حاجة لإحترام راحة الناس في منازلهم، وتجنب المشاكل معهم. وعليه مقابل الحوافز والتشجيعات التي تقدمها البلدية لأصحاب هذه الإستثمارات الجديدة، هناك قوانين تحددها كل من وزارة الداخلية والسياحة، وضوابط تضعها البلدية مبنية على تفاهمات مع  أصحاب المرابع والحانات، لضمان عدم تسببها بإزعاج في محيطها. وهكذاسعينا لتجهيز بعض الحانات بعوازل، ولا تزال غيرها تحتاج الى إجراءات مشابهة، ونعمل على حل الهفوات الماتجة عن عدم وجود أي ضوابط لأعمال هذه المراكز السياحية سابقا.

سمحت البلدية لأصحاب هذه المرابع بإستخدام المساحات العامة الملاصقة لها من أدراج وأرصفة، وإنما من ضمن رخص، ما شجع أصحاب الرساميل على إنفاق مزيد من الأموال في تحسين جمالية المواقع التي يشغلونها، وسارعت الى تقديم التسهيلات التي تسمح بولادة منزيد من الاستثمارات في هذا القطاع. الى أن وصل دعم البلدية لأصحاب خلال الصيف  الماضي لتنظيم حفل مشترك في البارك البلدي ، لأصحاب الحانات، من ضمن مهرجان زحلة للموسيقى، الذي يقول ملحم، أنه لم يصب هدفه بشكل كامل كحفل موسيقي ضخم في الهواء الطلق، وإنما وضع الأسس لحدث مشابه سينظم بزخم أكبر في السنوات اللاحقة ويحقق الهدف المنشود في جعل زحلة تتميز بمثل هذه النشاطات التي تجعل منها وجهة لمحبي السهر من كل لبنان.

تغييرات طرأت على المفهوم السياحي العام

يشرح ملحم أن بلدية زحلة واعية للتغييرات التي طرأت على المفهوم السياحي في المدينة، وفي العالم بشكل عام، حيث التوجه أيضا للإستفادة من المشاريع الخضراء  go green التي تتناسب مع طبيعة المدينة وإقتصاد مرتفعاتها القائم على الزراعة بشكل أساسي، ومن هنا أيضا تأكيدها الدعم للمشاريع التي بدأت تنشأ على تلال المدينة، وسعيها على رغم الإمكانيات المالية المحدودة، لمواكبة الإستثمارات بمشاريع البنى التحتية المطلوبة، وبتوفير الظروف الإنمائية، التي لا يمكن أن تتحقق بفقسة زر، خصوصا أننا في مدينة كبيرة، ولا يمكن مقارنتها بأي من المدن السياحية في لبنان والتي لا يتجاوز حجم بعضها حجم حي من أحيائنا.

ويؤكد ملحم أن زحلة قادرة بالمقومات الموجودة لديها ومع بعض الحوافز والإعفاءات وتجهيزات البنى التحتية أن تضاهي أكثر المدن شهرة بالسياحة،  ولدينا من مقومات السياحة المستدامة ما يسمح بذلك على مدار الفصول الأربعة، وإنما تحقيق ذلك قد يحتاج الى وقت، خصوصا أن بعض الأمور ليست مرتبطة بالبلدية وحدها، بل بالإستثمارات الخاصة، كما أننا مدينة كبيرة، ولا يمكن أن ننفق كل أموالنا على القطاع السياحي وحده.

ويذكر ملحم في المقابل بأن أكبر المدن السياحية في العالم، لم تنشأ دفعة واحدة، بل كان ذلك نتيجة لتراكم جهود، ونشاطات وفعاليات، كلها خلقت الهوية السياحية لهذه المدن، وهذا ما تطمح زحلة لأن تصله في المستقبل.